الحب الذي أتكلم عنه هو حب ما بينَ الشباب في الجامعة والحب في الحقيقة ليس مقصورًا على الشباب لأنه يستطيع أن يداهم الإنسان في أي وقت من عمره و لكن إلى أي حد يكونُ تأثيرهُ على الإنسان و إلى أي حد تتأثرُ تصرفات الإنسان وتوجهاته في الحياة لأنه أحب !! هذا هو ما يجعل الحب في سنين الجامعة أهم و أولى بالمناقشة من غيره لما هو معروف من ثراء هذه السنوات من عمر الإنسان و الحب دائما ما يبين للإنسان جوانب لم يكن يعرفها في نفسه و دائما ما يترك الكثير من العلامات على شخصيته و سلوكياته و هو ما يجعل الحب موضوعا لعلم النفس و للطب النفسي بالتالي.
وما أحب أن أشير إليه قبل الدخول في موضوع المقال هو أن الحب بمفهومه العربي أي المفهوم الذي يفهمه الإنسان العربي من الكلمة حب و هو المفهوم العاطفي أو الرومانسي
للكلمة هو مفهوم عربي كلية لأن الباحث في المعنى التاريخي لكلمة لوف الإنجليزية سيجد أنها ظلت دائما تعني ممارسة الجنس و لا شيء آخر فلم تكن تعني العاطفة و لا الهوى إلى أن دخل المفهوم العربي على الثقافة الغربية في القرن الثاني عشر الميلادي من خلال الشعراء الأوربيين المتجولين التروبادور الذين أخذوه أصلا عن العرب في الأندلس و من يقرأ كتاب طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي يعرفُ كم كان الإسلام رائعا في موقفه من الحب و كم كان المجتمع الإسلامي جميلا !
الحقيقة أن العنوان يعطي إيحاء بأن الحلم جميل و الواقع ليس كذلك وهذا ما سوف نحاول التأكد منه ؛ كنا في الماضي عندما نحب نتخيل و نحلم بأن يصبحَ الخيالُ واقعًـا و كان ذلك ممكنا إلى حد كبير أما هذه الأيام فإن ما تمكن تسميته " بالخيال سابق التجهيز " أصبحَ يحتل عقولنا وأصبحنا نحاول أن نجعل الواقعَ كالخيال ؛ أصبحنا نفعلُ عكسَ ما كنا نفعل أي أصبحت لنا تخيلاتنا الجاهزة التي نحاول أن نجد الواقع الذي يكون أقرب ما يمكن منها وهذا ما يحرمنا إلى حد بعيد من الكثير من المشاعر و التخيلات الإنسانية التي تنتج عن إحساس الإنسان بأن هناك ما يجهلهُ ! في الماضي كان الشخص يحب ثم يتخيل أشياء عن محبوبته أما الآن فإنه يبحث عن المخلوقة التي توافق خياله السابق التجهيز و هذا ما يجعل الأمور أصعب ! خاصة و هنا تكمن المشكلة التي نعاني جميعا بسببها وهي أن الخيال السابق التجهيز الذي أصبح يحتل عقولنا هو خيال مستورد لا يعبر عنا نحن كمجتمع له خصوصياته ! و المشكلة أيضا أن هذا الخيال السابق التجهيز فيما يتعلق بالحب هو خيال " منزوع القيم " لأن المجتمع المبدع لهذا الخيال مجتمع منزوع القيم .
إن ما أرمي إليه في كلامي الآن هو أن الخيال أو الحلم هذه الأيام ليس مع شديد الأسف معبرًا عنا ؛ لكننا في معظم الأحيان لا ندرك ذلك !! لأن الحلم الذي أتكلم عنه لم ينتج بالشكل الطبيعي المناسب لنا فإذا سألنا أنفسنا عن مصادر الحلم عند كل منا لوجدناها على سبيل المثال لا الحصر هي الأفلام السينمائية ؛ الأغاني الشبابية ؛ الرافد الأجنبي متمثلا في الإنترنت و القنوات الفضائية ؛ أما الحلم القديم فلم تكن له مثل هذه المصادر بقدر ما كان ينشأ كنتيجة لوجود الحب نفسه و بالتالي يجيء نابعا من الواقع ؛ و لذلك كان تحول الحلم إلى واقع ممكنا أما الآن فإن الحلم السابق التجهيز أصلا لا هو بالنابع من ثقافتنا ولا هو بالمعبر عنا ؛ و لا يستطاعُ بشكل طبيعي أن نحول الواقع الذي نعيشه إلى ذلك الحلم ! فلا يكون أمامنا إلا أن نأخذ موقفا انفعاليا منه إما أن يُضطر الواحدُ منا للانفصال عن واقعه و العيش بعيدا عن العصر و إما أن ينسلخ الواحد من جلده فيعيش مسخا ثقافيا في مجتمعه ؛ و هناك من يخلطون بين هذا وذاك لكنهم أيضا لا يستريحون !
فإذا أردنا الكلام عن معالم حلم الحب العصري فإن أهم المؤثرات فيه هي :
أولا الصورة : نحنُ نعيش ثقافة الصورة في هذه الأيام و فيما يتعلق بالحب و كيفية التعبير عنه بالصورة نجد إعلاء مبالغا فيه لقيمة الجسد على قيمة المعنى و هذا في حد ذاته افتئات على المشاعر البشرية في موضوع الحب
ثانيا سرعة إيقاع العلاقة العاطفية كنتيجة لسرعة إيقاع الحياة بشكل عام ؛ و هناك بالتالي استعداد سريع للملل و هو ما يتنافى مع طبيعة الحب البشري فقد أصبح هناك ما نستطيع تسميته بالعلاقات التيك أواي أو الشريك الذي يستخدم مرة واحدة مثل السرنجة !
و أما ثالث المؤثرات و أخطرها فهو التحول بشكل عام من إسباغ الخصوصية الروحية و النفسية على مفهوم العلاقة بين الرجل والمرأة إلى جعلها نوعا من الترفيه وكسر الملل ! و شتان ما بين المنظورين !! و يتزامنُ ذلك مع حدوث نفس الشيء للفن بكافة صوره و من يرى أغاني الفيديو كليب الشبابية وما يحدث فيها يدرك معنى كلامي فقد وصل الحال في بعض هذه الأعمال إلى جعل الكلام المغنى شيء و الصور المصاحبة له شيء آخر ! و أصبح هناك من يتفرج على الأغنية و لا يهتم بسماعها !
و رابعا : تأثير ظاهرة شبابية كظاهرة" الروشنة " على العلاقة بين الشاب و الفتاة فإنه كبير و لا شك لأن الروشنة مفهوم غير محدد المعالم لأنه "لا تقليدية " كل ما يشترط فيها هي أن لا تكون تقليديا وعندما يصبح الحب طقسا من طقوس الروشنة فإنه الحب الذي يتحرر من كل ضوابط السلوك البشري يتحرر التالي من الحب نفسه لأن الحب سلوك بشري رفيع و كل السلوكيات البشرية الرفيعة هي سلوكيات تحمل منظومة قيمية في طياتها ؛
و تحدثُ وسط ذلك كله تفاعلات ما بين المفاهيم التي تحاصر عقولنا من كل جهة و بين مقتضيات الواقع وضغوطه و بين البقية الباقية فينا من قيمنا و مبادئنا فتكون النتيجة ظواهر لا تفسر بسهولة فمثلا ظاهرة الزواج العرفي لا يمكن أن نقول بأنها دليل على التفسخ القيمي بين الشباب بقدر ما هي تعبير عن الأزمة التي يمر بها المجتمع ككل فهي محاولة للتعامل مع الأزمة و هي بتعبير أدق محاولة لاستخدام بعض أحكام الفقه الإسلامي بشكل روش أي أن الدين نفسه غير معصوم من الروشنة
فإذا أردنا أن نناقش ظاهرة يسميها البعض انحسار الرومانسية أو ندرة وجودها فإن الأمر في الحقيقة ليس انحسار الرومانسية بقدر ما هو انعدام الشروط اللازمة لوجودها فالرومانسية لا تعيش إلا من خلال مشروع فكري ملهب للمشاعر أو على الأقل في وجود مفارقة اجتماعية أو مكانية على سبيل المثال فأما من ناحية المشروع الفكري فمعظم مشاريعنا الفكرية التي كانت تستقطب الشباب قد انهارت و أما المفارقاتُ فإن من معالم عصرنا اختفاء المفارقات فمثلا لم يعد البعد المكاني في وجود الإنترنت يمثل مفارقة كما كان و لم يعد الزواجُ الذي يتخطى الطبقات بين زميلين في الجامعة ممكنا لأن المساواة في فرصة العمل المتكافئ التي كانت مكفولة للخريجين جميعا من قبل لم تعد موجودة ! الحب الآن لا يجب أن يكون رومانسيا بالشكل الذي كان في الماضي ووجود الرومانسية عند طرف من الطرفين في ظل غياب المشروع والمفارقة إنما هو دليل على عدم النضج و ربما السذاجة و هذا ما يتسبب في صدمة كبيرة عندما يحدث ما يحدث غالبا و تنتهي بسببه العلاقة العاطفية ؛
المشكلة هي أن ما نحتاج إلى مواجهته كمجتمع و كشباب ليس فقط كما يقول الكثيرون هو الواقع المتأزم و لكن هناك أيضا الخيال السابق التجهيز الذي لا ندري به و الذي كما قلت لا يعبر عنا بقدر ما يعبر عن مبدعيه و أصحابه !!
و هناك في مجتمعنا من يتخيلُ أنه يواجه الواقع المنافي لقيمه و مبادئه بينما هو في الواقع يواجه الخيال السابق التجهيز الذي أشرت إليه و الحقيقة أن معاناة الشباب في مجتمعاتنا معاناة كبيرة وأكثر هؤلاء الذين يعانون هم الذين يحاولون الالتزام بقيمهم أو دينهم لأن معظم هؤلاء يجهلون الكثير من دينهم و يتعذبون بسبب ذلك فهم يتصرفون حسب فهم غير كامل ولا أقول مشوه للدين ! ناتج عن هروب مرضي من الواقع و أنا شخصيا أرجع ذلك إلى انفصالنا عن جذورنا الحقيقية وعدم تواصلنا بها ولا بتراث المفكرين المسلمين إلا من خلال دراسات علمائنا المحدثين الذين تصرفوا كما يتصرف من أقر بهزيمته الفكرية و راح ينقي من تراثنا ما يجعله متماشيا مع الأفكار الغربية التي سادت وروج لها أصحابها على أنها المفاهيم العالمية العلمية الصحيحة و الوحيدة و هم غير ملومين في ذلك لأنها أفكارهم أما علماءنا نحن فلا أقول إلا غفر الله لهم و أثابهم على نواياهم ؛ و لكي أعطي المثل على ذلك فإنني أرى مفهوم الأسرة في الإسلام خير مثال على ذلك لأن الإسلام يركز على وحدة اجتماعية أكبر من الأسرة و هي الجماعة الاجتماعية و عندما فوجئ مفكرونا بذلك راحوا يبحثون في تراثنا عما يعضد اهتمام الإسلام بالأسرة و كأن الشكل الاجتماعي الوحيد الصالح هو الشكل الذي يسود في الغرب و على نفس الطريق كانت الاشتراكية في الإسلام و غيرها .